مقال

اثبت مكانك… ولا نؤتى من قبلك

منار الدين الدقر
19 Aug 2025
حين نتأمل معركة أُحد بما حملته من آلام ودروس، ندرك أنّها لم تكن مجرد مواجهة عسكرية بين فريقين، بل كانت امتحاناً إلهياً يختبر عمق الإيمان وصدق العزائم، ويضع الأفراد أمام حقيقة مواقعهم في الحياة. ففي تلك اللحظة الفاصلة، حين انسحب ثلث الجيش بقيادة عبد الله بن أبيّ، وحين أخذت موازين القوى تتبدل، وجّه النبي صلى الله عليه وسلم وصيته الخالدة لعبد الله بن جُبَير، قائد الرماة: "انضح الخيل عنّا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا، فاثبت مكانك لا نؤتَيَنّ من قبلك". إنّها جملة قصيرة في مبناها، عظيمة في معناها، تضيء للإنسان منهجاً متكاملاً في الثبات وتحمل المسؤولية، وتختصر فلسفة الالتزام في كلمة واحدة ": الثبات".
هذه الوصية لم تكن مجرد أمر عسكري لضمان حماية ظهور المسلمين، بل كانت تأسيساً لمبدأ كلي يتجاوز حدود الزمان والمكان. فقد تعني الكلمات في ظاهرها أن يحفظ عبد الله موقعه وأن يمنع العدو من الالتفاف، ولكن في باطنها رسالة أوسع تقول لكل إنسان: إنّ لك في الحياة ثغراً لا يقوم به غيرك، موقعاً اختارك الله له، فإن قمت به أديت الأمانة، وإن قصّرت فيه كنت سبباً في ثغرة يتسلل منها الخطر ويؤتى الإسلام بها من قلبك. ولذلك فإنّ "لا نؤتَيَنّ من قبلك" ليست جملة ظرفية مرتبطة بأُحد وحدها، بل هي قاعدة تربوية دائمة، تلزم الإنسان في دينه ودنياه، في أسرته ومجتمعه، في عمله ومشروعه، بل في كل موضع أقامه الله فيه.
والنظر في معركة أُحد يبين أنّ الهزيمة لم تكن بسبب قلة العدد، بل بسبب ضعف الالتزام عند بعض الأفراد، حين طغت الرغبة في الغنيمة على وصية القائد. وهذا يوضح أن قيمة المجتمع لا تتحدد بكثرة أفراده، بل بمدى ثبات كل واحد منهم على موقعه. فانسحاب ثلاثين أو أربعين من الرماة من أماكنهم كان كافياً ليقلب الموازين ويحول النصر إلى ابتلاء، وكأنّ القرآن الكريم أراد أن يعلّمنا أن ثغرة واحدة قد تُسقط أمّة، وثبات رجل واحد قد ينقذها.
ومن هنا نفهم أنّ الثبات ليس فضيلة فردية فحسب، بل هو مسؤولية جماعية. فالفرد حين يثبت في موقعه يعطي الآخرين الثقة بأنّ ظهورهم محمية، أما إذا تخلى عن موقعه فإنه لا يخذل نفسه وحدها، بل يخذل معه صفاً كاملاً كان يتكئ عليه. ولهذا فإنّ الثبات عند الثغر يعادل في وزنه ثبات أمة كاملة، وقد يتحول الفرد الواحد إلى "أمّة" إن هو أخلص العزم وربط قلبه بالله، كما قال تعالى في شأن إبراهيم عليه السلام: "إن إبراهيم كان أمّة قانتاً لله حنيفاً".
إنّ قوة هذه الوصية النبوية أنها تزرع في النفس وعياً عميقاً بأنّ لكل إنسان دوراً محدداً لا يقوم به غيره. فموقعك مع أهلك، مع زوجك وأبنائك، مع فكرتك ومشروعك، مع قيمك ومبادئك، كل ذلك هو ثغور تحتاج إلى حراسة دائمة. ومن العجيب أنّ كثيراً من الناس يظنون أنّ مواقعهم صغيرة أو غير مؤثرة، غير أنّ التجربة التاريخية تثبت أنّ أعظم الهزائم نشأت من ثغرات صغيرة استهان بها أصحابها، وأعظم الانتصارات بدأت بخطوات فردية صادقة ثبت أصحابها عليها حتى النهاية.
وعلى المستوى النفسي، فإنّ الثبات يولّد لدى الإنسان طمأنينة داخلية، لأنه حين يستشعر أنّ موقعه تكليف إلهي، يتحول كل جهد يبذله إلى عبادة، وكل صبر يصبره إلى قرب من الله. إنّ الإيمان بأنّ الله اختار لك هذا الموقع، وجعلك مسؤولاً عنه، يبعث في القلب يقيناً يجعلك ترى في كل تحدٍّ امتحاناً، وفي كل موقف فرصة لتثبت أنك صادق فيما عاهدت الله عليه. فحين يقول النبي لعبد الله بن جُبَير "لا نؤتَيَنّ من قبلك"، كأنه يقول: إنّك محكوم بصدقك وثباتك، لا بعدد من معك ولا بقلّتهم، فإن ثبتّ فأنت جندي لله، وإن تهاونت كنت سبباً في خذلان إخوانك.
وفي حياتنا المعاصرة، يواجه كل واحد منا معارك من نوع مختلف: معركة القيم في زمن الفتن، معركة التربية في زمن التفكك الأسري، معركة الفكر في مواجهة التيارات المنحرفة، ومعركة البناء والإنتاج في زمن التحديات الحضارية. وكلها ميادين تحتاج إلى رجال ونساء يثبتون في مواقعهم، ويحمون ثغورهم، ويستحضرون تلك الوصية النبوية: "لا نؤتَيَنّ من قبلك". من استهان بموقعه وتركه مفتوحاً، سمح للأزمات أن تتسلل من خلاله، ومن ثبت عليه كان كمن سدّ ثغرةً تحمي صفاً كاملاً من الانهيار.
إنّ هذا المعنى يختصر فلسفة النهوض الحضاري والتي تتمثل بحمل كل فرد أمانته، ويثبت في موضعه، ويستشعر أنّ الأمة كلها قد تُبتلى بضعفه أو تنهض بثباته. فإذا اجتمعت عزائم الأفراد على هذا الفهم، تحولت الأمة إلى صف مرصوص لا يمكن أن يخترق. وإذا وهن الأفراد في مواقعهم، صارت الأمة كلها عُرضة للانكسار، كما حدث يوم أُحد.
وهكذا نفهم أنّ الثبات ليس حالة طارئة، بل هو منهج حياة، وهو في الوقت ذاته عبادة قلبية وعملية. فهو عبادة قلبية حين يوقن المرء أنّ موقعه اختيار إلهي وأنه مؤتمن عليه، وهو عبادة عملية حين يثبت بالفعل ويمنع الثغر أن يؤتى من جهته. ولذلك فإنّ استدعاء هذه الوصية النبوية في واقعنا ليس ترفاً فكرياً، بل هو ضرورة وجودية لكل من يحمل همّ دينه وأمته.
فلتكن كلمات النبي صلى الله عليه وسلم دستوراً دائماً في حياتنا: " اثبت مكانك، لا نؤتَيَنّ من قبل" فهي ليست مجرد ذكرى من معركة قديمة عابرة، بل نداء يتجدد في كل لحظة، في كل موقف، في كل علاقة، في كل مشروع، إنّها صياغة مكثفة لفلسفة المسؤولية، ورسالة خالدة تقول لكل إنسان: "إنّ الأمة تنتظر ثباتك، وربك يراك في موقعك، فكن على قدر الأمانة، ولا تترك ثغرك فارغاً، لعلّ الله يجعل بثباتك نصراً، وبصبرك فرجاً، وبصدقك حياة لأمة بأكملها."

منار الدين الدقر

منار الدين الدقر، باحث وأكاديمي سوري، ومشارك في الثورة السورية منذ انطلاقتها الأولى، أحمل في قلبي قضايا وطني، وفي فكري هموم أمتي، وأسعى أن أجمع بين العمق العلمي، والنضج الفكري، والخبرة الميدانية، بروح ثائرة لا تنكسر، وبعقل ناقد باحث. خلال أكثر من عقد من العمل، مزجت بين التحصيل الشرعي، والتأهيل الأكاديمي المتعدد، والخبرة الإدارية والتربوية، والمسؤولية المجتمعية، في محاولة لبناء مشروع معرفي تربوي يكون امتدادًا لقيم الثورة، وأصالة العلم، وإنسانية الرسالة.

التعليقات والمناقشة

إضافة تعليق

شاركنا رأيك حول هذا البحث

لا توجد تعليقات بعد

كن أول من يعلق على هذا البحث

أبحاث ذات صلة

مزيد من المقالات في نفس التخصص

والعاديات ضبحا
مقال
Dec 08
08 Dec 2025

والعاديات ضبحا

يحتل القسم القرآني موقعًا بالغ الأهمية في الخطاب الإلهي، فهو ليس مجرد افتتاحية بلاغية، وإنّما يحمل د...

قراءة البحث