مقال

الحرب النفسية في المنظور الإسلامي: دراسة في المنهج العام والخاص وتطبيقاتهما عبر مرحلتي الاستضعاف والتمكين

منار الدين الدقر
19 Aug 2025
تُعد الحرب النفسية أحد أهم محاور الصراع بين الأمم، فهي سلاح غير مرئي يستهدف العقل والإرادة قبل أن يستهدف الجسد والميدان. وقد تنبّه الإسلام منذ فجره إلى هذا البعد الخطير، فأرسى منظومة متكاملة للتعامل معه، جمعت بين الإقناع العقلي والوجداني من جهة، وبين الردع والمواجهة عند الحاجة من جهة أخرى، مع مراعاة الظروف المرحلية للمجتمع المسلم.
لقد اتسم المنهج الإسلامي بالشمولية، إذ قسم العمل إلى منهج عام ومنهج خاص. فالمنهج العام يقوم على الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، كما قال الله تعالى:
﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل: 125).
وقد جسّد النبي ﷺ هذا المنهج عملياً في مكة حين واجه قريشاً بالقول الطيب وتفنيد ادعائهم بالحجة، فكان تصحيح المفاهيم وكشف التحريفات من أبرز أسلحة المواجهة النفسية.
أمّا المنهج الخاص فيظهر حين يعاند الخصم ويحول دون وصول الدعوة، وهنا تنتقل المواجهة إلى طور آخر مشروع، يعبّر عنه بمفهومي جهاد الطلب وجهاد الدفع.
فجهاد الطلب – كما نص عليه الفقهاء – هو فرض كفاية، يقوم به من يكفي من المسلمين لإرهاب الأعداء وحماية بيضة الإسلام (انظر: ابن قدامة، المغني، ج10، ص371). أمّا جهاد الدفع فهو فرض عين إذا داهم الكفار بلاد المسلمين أو أسروا بعضهم أو التقى الصفان أو نودي بالنفير العام، وقد استدل العلماء على ذلك بقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا﴾ (البقرة: 190).
ولأنّ المواجهة النفسية لا تنفصل عن الواقع الاجتماعي والسياسي، فإن الإسلام تعامل مع هذه القضية بمنطق "المراحل". وهنا يمكن التمييز بين مرحلة الاستضعاف ومرحلة التمكين.
أولاً: مرحلة الاستضعاف
وهي المرحلة التي عاشها المسلمون الأوائل في مكة، حيث انصبّ الاهتمام على تحصين الداخل وتربية الأفراد. فالجبهة الداخلية في هذه المرحلة كانت تواجه سيل الشبهات والسخرية والإغراءات التي شنّتها قريش على المسلمين لإضعاف معنوياتهم. فجاء القرآن مؤكداً على قيمة الصبر: ﴿وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا﴾ (إبراهيم: 12)، ومثبتاً النفوس بآيات الوعد والوعيد، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (الشرح: 6).
لقد كانت التربية النفسية في هذه المرحلة تركّز على ضبط الانفعال وعدم الاندفاع وراء الاستفزاز، حتى لا تتسبب التصرفات الفردية في مفاسد أكبر. قال ابن تيمية: "المؤمن مأمور بالصبر عند الاستضعاف، والعفو عند المقدرة، فإذا قدر وجب عليه الجهاد" (مجموع الفتاوى، ج28، ص268).
أما الجبهة الخارجية فقد اعتمدت على السرية في نشر الدعوة وانتقاء الأفراد المؤهلين، تجنباً لبطش قريش، وهو ما يعرف اليوم بلغة العلوم العسكرية بـ "الحرب الباردة" أو "التجنيد الهادئ". وقد جسّد دار الأرقم هذه السياسة، حيث كان مركزاً للتربية والتخطيط بعيداً عن أنظار الأعداء.
ثانياً: مرحلة التمكين
بعد الهجرة إلى المدينة وقيام الدولة الإسلامية، تغيّر الموقف جذرياً. فالجبهة الداخلية أصبحت معنيّة بتقوية روابط الإيمان، وكشف المنافقين الذين كانوا أخطر من الكفار المحاربين، لأنهم يعملون على ضرب الصف المسلم من الداخل. وقد أشار القرآن إلى دورهم التخريبي في قوله: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ… وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ (المنافقون: 1).
أما الجبهة الخارجية فانقسمت إلى قسمين:
1. الأعداء المحاربون: وتُستخدم معهم الحرب النفسية الهجومية، عبر بث الرعب في صفوفهم، وهو ما تحقق في غزوة بدر حين قال تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ (الأنفال: 12).
2. غير المحاربين: وتُستخدم معهم الحرب النفسية الإيجابية القائمة على حسن التعامل والسعي للتحييد أو التحالف، كما فعل النبي ﷺ مع يهود المدينة ومع بعض قبائل العرب، امتثالاً لقوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾ (الممتحنة: 8).
الاستراتيجيتان الأساسيتان في الحرب النفسية الإسلامية
يمكن تلخيص منهج الإسلام في الحرب النفسية في استراتيجيتين:
1. الاستراتيجية الدفاعية: وتهدف إلى تحصين المسلم ببناء قوة نفسية متينة، قادرة على مقاومة الإحباط والدعاية المعادية. يقول الغزالي: "الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله"، وهذه المعادلة النفسية تعني أنّ الثبات النفسي شرط للنصر المادي.
2. الاستراتيجية الهجومية: وتقوم على زعزعة نفسية العدو وبث الرعب في صفوفه، وهو ما أشار إليه النبي ﷺ بقوله: "نُصرتُ بالرعب مسيرة شهر" (رواه البخاري ومسلم). وهذه الاستراتيجية ليست فقط عسكرية، بل تشمل البعد الإعلامي والسياسي، إذ تجعل العدو يعيش حالة من الارتباك وفقدان الثقة.
إنّ الحرب النفسية في الإسلام ليست مجرد إجراء تكتيكي عابر، بل هي جزء أصيل من منهج شامل لبناء الفرد والمجتمع. فهي تبدأ بالدعوة بالحكمة وتربية الصبر في مرحلة الاستضعاف، ثم تتطور إلى كشف الثغرات والمنافقين وردع الأعداء في مرحلة التمكين. وقد أكّد الباحثون المعاصرون أنّ هذا المنهج يشكل نموذجاً متكاملاً يمكن الإفادة منه حتى في الدراسات الحديثة لعلم النفس الحربي والإعلامي.
ومن ثمّ، فإنّ دراسة الحرب النفسية في المنظور الإسلامي تفتح آفاقاً رحبة لفهم طبيعة الصراع الإنساني وكيفية مواجهة الحملات الفكرية والإعلامية، وتؤكد أنّ الإسلام سبق في صياغة أسس متينة لبناء الإنسان القوي نفسياً، والمجتمع المتماسك وجدانياً، والدولة الراسخة أمام التحديات.

منار الدين الدقر

منار الدين الدقر، باحث وأكاديمي سوري، ومشارك في الثورة السورية منذ انطلاقتها الأولى، أحمل في قلبي قضايا وطني، وفي فكري هموم أمتي، وأسعى أن أجمع بين العمق العلمي، والنضج الفكري، والخبرة الميدانية، بروح ثائرة لا تنكسر، وبعقل ناقد باحث. خلال أكثر من عقد من العمل، مزجت بين التحصيل الشرعي، والتأهيل الأكاديمي المتعدد، والخبرة الإدارية والتربوية، والمسؤولية المجتمعية، في محاولة لبناء مشروع معرفي تربوي يكون امتدادًا لقيم الثورة، وأصالة العلم، وإنسانية الرسالة.

التعليقات والمناقشة

إضافة تعليق

شاركنا رأيك حول هذا البحث

لا توجد تعليقات بعد

كن أول من يعلق على هذا البحث

أبحاث ذات صلة

مزيد من المقالات في نفس التخصص

والعاديات ضبحا
مقال
Dec 08
08 Dec 2025

والعاديات ضبحا

يحتل القسم القرآني موقعًا بالغ الأهمية في الخطاب الإلهي، فهو ليس مجرد افتتاحية بلاغية، وإنّما يحمل د...

قراءة البحث