فهذه الآية الكريمة تُقرر بوضوح أنّ تكذيب الكافرين لم يكن موجهاً لشخص النبي صلى الله عليه وسلم، إذ هم يعلمون في قرارة أنفسهم صدقه، كما قال عبد الله بن سلام: "قد عرفوا أنّه رسول الله كما يعرفون أبناءهم" (رواه أحمد). ولكن الذي دفعهم إلى الجحود هو الظلم والكبر والحسد، فالجحود في أصله مرض قلبي، لا عجز عقلي ولا قصور في البيان. وهذا يواسي الداعية في كل زمان، أن يعلم أنّ صدود الناس ليس لضعف حجته، وإنّما لخلل في قلوبهم، كما قال ابن كثير رحمه الله: "فإنهم لا يكذبونك أي في الباطن يعلمون أنك صادق، ولكن يجحدون بآيات الله ظلماً وعلواً" تفسير ابن كثير، 2/174.
وقد بين الله عز وجل أنّ الحزن أمر فطري يقع في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، لكنّه نهى عن الاسترسال فيه إلى حدّ يُضعف الصبر ويورث الجزع. قال سبحانه: "ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعاً" [يونس: 65]، وقال جل وعل: "افلا تذهب نفسك عليهم حسرات" [فاطر: 8]. فهذا التوجيه الإلهي يرشد الداعية أن يضبط حزنه بضوابط الشرع، فلا يمنعه من البلاغ، ولا يحمله على الاستعجال بالنتائج، ولا يخرجه عن دائرة الرضا بقضاء الله وقدره.
ثم يقرر القرآن سنة ماضية مطّردة: أنّ جميع الرسل قد واجهوا ما واجه النبي صلى الله عليه وسلم من تكذيب وأذى، فكان علاج ذلك بالصبر، حتى جاءهم نصر الله. قال تعالى: "ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا" [الأنعام: 34]. وهذا فيه تسلية عظيمة للدعاة من بعده، إذ يعلمون أنّهم على درب الأنبياء، وأنّ النصر لا ينال إلا بالصبر. قال القرطبي رحمه الله" :ففي ذكر من تقدم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنّ صبرك كصبرهم حتى يأتيك من النصر ما أتاهم" الجامع لأحكام القرآن، 7/62.
ولا شك أنّ أشد ما يبتلى به الداعية هو أن يرى الحق بيّناً ثم يرى من يرفضه مع علمه بصدقه. وقد وصف الله حال هؤلاء بقوله: "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً" [النمل: 14]. فالمصيبة ليست في الجهل بالحق، بل في الإعراض عنه عمداً. وهذا ما يجعل الحزن على هؤلاء طبيعياً، لكنّه لا ينبغي أن يتحول إلى حسرة تعوق السير في الدعوة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية" على الداعية أن يؤدي ما عليه من البلاغ، وأما هداية القلوب فهي بيد الله "مجموع الفتاوى، 4/178.
ومن أعظم ما يهوّن على الداعية المصاب أن يتذكر أنّ الهداية والضلال بيد الله، يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يشاء بعدله. قال تعالى: "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً" [يونس: 99]. فليس على الداعية أن يحمل همّ النتائج، بل يكفيه أن يبلّغ ويصبر، ويحتسب أمره عند الله. وهذا هو معنى قوله تعالى: "فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب " [الرعد: 40].
إنّ إدراك هذه السنن الإلهية يثمر في قلب الداعية قوة وصبراً، فلا يبالغ في الحزن على من أعرض، ولا يستسلم لليأس، بل يستمر في البلاغ، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، إذ لم يمنعه أذى قريش وسخريتهم من المضي في طريق الحق. وفي هذا درس عظيم لكل من سار على نهجه: أن يجعل الصبر عبادة، وأن يرى في الابتلاء باباً للتمحيص ووسيلة للثبات.
وخلاصة الأمر: أنّ الحزن في الدعوة شعور صادق ودليل على محبة الخير للناس، لكنّه إذا تجاوز حدّه انقلب إلى عجز وضعف. ولذلك جاء التوجيه القرآني بضبطه، وربطه بالصبر، وبتذكر سنن الله في خلقه، والتأسي بالرسل من قبل، حتى يمضي الداعية في دعوته ثابتاً مطمئناً، لا تزلزله كلمات المستهزئين، ولا يصرفه إعراض المعاندين، وليقول كما قال نبي الله نوح: "وأمرت أن أكون من المسلمين] "يونس: 72. [
منار الدين الدقر
منار الدين الدقر، باحث وأكاديمي سوري، ومشارك في الثورة السورية منذ انطلاقتها الأولى، أحمل في قلبي قضايا وطني، وفي فكري هموم أمتي، وأسعى أن أجمع بين العمق العلمي، والنضج الفكري، والخبرة الميدانية، بروح ثائرة لا تنكسر، وبعقل ناقد باحث. خلال أكثر من عقد من العمل، مزجت بين التحصيل الشرعي، والتأهيل الأكاديمي المتعدد، والخبرة الإدارية والتربوية، والمسؤولية المجتمعية، في محاولة لبناء مشروع معرفي تربوي يكون امتدادًا لقيم الثورة، وأصالة العلم، وإنسانية الرسالة.