لقد تناول المفسرون الأوائل هذا القسم من زوايا متعددة، فأكد ابن كثير أنّ المراد بالخيل هنا هي خيل المجاهدين في سبيل الله التي تعدو فتثير الغبار وتقتحم ميادين القتال[1]. وأكد القرطبي أنّ ذكر "الضبح" تخصيص لصفة فريدة في الخيل المقتحمة للمعارك، إذ يختص بها دون سائر الدواب[2]. بينما أشار الطبري إلى أنّ القسم بالخيل إشارة إلى عظم شأنها في نصرة الدين وارتباطها الوثيق بمصير الأمة[3]. لكن التوقف عند الجانب اللغوي والتفسيري لا يكفي لفهم العمق التربوي لهذا القسم، إذ إنّ وراءه إشارات دقيقة لبناء شخصية المسلم على مستوى التدريب، والمجاهدة، والصبر، والانضباط النفسي.
إنّ أول ما يُستفاد من هذا القسم هو أنّ القرآن يلفت النظر إلى قيمة التدرج في التدريب. فالخيل النخبة التي تدخل مضمار السباق أو ساحة القتال لا تُدفع مباشرة إلى أقصى طاقتها، بل تمر ببرامج تدريبية دقيقة تراعي مراحل نموها، وطاقتها، وقدرتها على التحمل. وهذا عين ما يحتاجه الإنسان في مجاهدته لنفسه: أن يسير بتدرج، وأن يوازن بين الجهد والطاقة، حتى لا يرهق نفسه في البداية فيفتر وينقطع، وإنّما يبني طاقته الإيمانية والإرادية على نحو مستدام. ومن هنا تتأكد حكمة الإسلام في التدرج في التشريع والتكليف، كما في تشريع الصيام أو تحريم الخمر.
أما الجانب الثاني فهو التحفيز بالمكافأة، وهو مبدأ نفسي وتربوي راسخ. فالمدربون يدركون أنّ الخيل لا تقدم أفضل أدائها إلا إذا ارتبط جهدها بمكافأة، سواء كانت غذاءً خاصًا أو عناية أو مدحًا. وكذلك النفس الإنسانية، فهي تحتاج بين الحين والآخر إلى دفعات من التحفيز الإيجابي الذي يعيد لها الرغبة في الاستمرار. وهذا ما يقوم به القرآن حين يقرن الأمر بالتكليف بالوعد بالجنة، وبالطمأنينة إلى أنّ الجهد لن يضيع، وأنّ كل لحظة صبر أو بذل محفوظة عند الله.
ويتضح البعد الثالث في أهمية الصبر والتحمل، فصوت "الضبح" ذاته ليس سوى علامة على الجهد المبذول واستمرار النفس في العدو رغم شدة التعب. وهنا يبرز البعد التربوي: أن حياة المسلم مليئة بالمشاق، وأن بلوغ الغاية لا يتحقق إلا بالصبر والمصابرة. وقد عرّف العلماء الصبر بأنه "حبس النفس عن التسخط والجزع"، وهو ما يعكس حالة الانضباط التي يتمثلها الفارس وخيله في ميدان القتال أو السباق. وهذا المعنى هو ما يفتح أمام المسلم آفاق مجاهدة نفسه بصمت وبُعد عن الاستعراض، فالعبرة ليست بالاندفاع الآني بل بالثبات على الطريق حتى النهاية.
ويتصل بذلك بعدٌ رابع مهم، وهو الوسع النفسي والمرونة في مواجهة المعيقات. فالخيل النخبة تتميز بكبر حجم مجاريها التنفسية مما يمنحها قدرة على استنشاق كميات كبيرة من الهواء، وبالتالي التحمل في العدو لمسافات طويلة. وهكذا الإنسان المؤمن، يحتاج إلى سعة صدر ومرونة نفسية ليجتاز العقبات ويستمر في سباق الحياة. وهنا تتناغم الآية مع الحديث النبوي الشريف: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف»[4]، فالقوة هنا ليست جسدية فحسب، بل نفسية وروحية وإرادية.
كما لا يغيب عن التأمل أنّ القرآن يربط القسم بالخيل بسياق اجتماعي وجماعي. فالخيول حين تقتحم المعركة، إنّما تفعل ذلك مجتمعة، متناسقة، متوسطة في صفوفها كما قال تعالى: ﴿فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا﴾ [العاديات: 4-5]. وهذا يشير إلى قيمة العمل الجماعي المنظم، حيث لا مجال للفوضى أو الفردية، بل هناك تنسيق وانسجام يضاعف الأثر. وكذلك الأمّة في مواجهة التحديات تحتاج إلى وحدة الصف، ووسطية المنهج، وتماسك البناء الداخلي، إذ لا يكفي جهد الفرد مهما عظم، بل لا بد من أن يكون جزءًا من منظومة متكاملة.
ويأتي أخيرًا البعد الإيماني الجامع، وهو أنّ القسم بالخيل لم يكن تمجيدًا لمطلق القوة، بل توجيهًا للإنسان إلى النظر في قوة الخيل لينتقل منها إلى قوة القيم التي يجب أن يتحلى بها. فالقوة الحقيقية ليست مجرد اندفاع بدني أو نفسي، وإنّما هي قوة منضبطة بالشرع، مستمدة من الثقة بالله، وموجهة نحو غاية سامية. ولذلك جاء في الحديث الشريف: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة»[5]، في إشارة إلى أنّ الخيل رمز للخير والعطاء والجهاد في سبيل الله.
وعليه، فإنّ القسم بالخيل العاديات يضع بين أيدينا منهجًا متكاملًا لبناء المناعة النفسية والإيمانية: تدريب متدرج، تحفيز مستمر، صبر عميق، مرونة في مواجهة الأزمات، عمل جماعي منظم، وانضباط إيماني يوجه القوة نحو الحق. وهذه كلها مبادئ أساسية إذا استوعبها المسلم في حياته، استطاع أن يكون كالعاديات ضبحًا: يعمل بصمت، ويثبت عند التحديات، وينطلق بقوة نحو الغاية، حتى إذا جاءت اللحظة الحاسمة كان مستعدًا لإشعال الحماس وإحداث الأثر المنشود.
________________________________________
المراجع
[1] ابن كثير، إسماعيل بن عمر. تفسير القرآن العظيم. بيروت: دار إحياء التراث العربي، 2003.
[2] القرطبي، محمد بن أحمد. الجامع لأحكام القرآن. القاهرة: دار الكتب المصرية، 2006.
[3] الطبري، محمد بن جرير. جامع البيان عن تأويل آي القرآن. بيروت: دار الفكر، 2000.
[4] مسلم، صحيح مسلم، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز، حديث رقم (2664).
[5] البخاري، صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب الخيل معقود في نواصيها الخير، حديث رقم (2853).
منار الدين الدقر
منار الدين الدقر، باحث وأكاديمي سوري، ومشارك في الثورة السورية منذ انطلاقتها الأولى، أحمل في قلبي قضايا وطني، وفي فكري هموم أمتي، وأسعى أن أجمع بين العمق العلمي، والنضج الفكري، والخبرة الميدانية، بروح ثائرة لا تنكسر، وبعقل ناقد باحث. خلال أكثر من عقد من العمل، مزجت بين التحصيل الشرعي، والتأهيل الأكاديمي المتعدد، والخبرة الإدارية والتربوية، والمسؤولية المجتمعية، في محاولة لبناء مشروع معرفي تربوي يكون امتدادًا لقيم الثورة، وأصالة العلم، وإنسانية الرسالة.