هذا الحديث النبوي الشريف يضع يده على جوهر أزمة الأمّة في مراحل الضعف التاريخي: إنّها ليست أزمة عدد ولا عُدَّة فحسب، بل هي أزمة معنوية – نفسية – روحية قبل أن تكون عسكرية أو مادية. فالأمم تجتمع على الأمّة الإسلامية لا لقلتها، بل رغم كثرتها؛ لأنّها فقدت عنصر القوة الداخلية، أي الهيبة والصلابة والثبات، واستبدلته بالوهن الذي يتجلى في حب الدنيا وكراهية الموت.
وحين نتأمل في واقع الأمّة اليوم، نجد أنّ هذا الحديث قد صار مرآة صافية تعكس ما نراه بأعيننا: قوى متفرقة، دول ممزقة، شعوب ضعيفة أمام عدوان خارجي متكرر، وصورة تكرس حضور "الغثائية" التي تحدث عنها النبي ﷺ. لكن السؤال الجوهري هنا: هل يبعث هذا على اليأس؟ وهل يورث فينا إحباطاً وقنوطاً؟
الجواب: كلا والله، بل إن تحقق هذا الحديث في الواقع هو في ذاته دليل على صدق النبوة، وإثبات أنّ ما أخبر به الرسول الكريم إنّما هو الحق الذي لا مرية فيه. كما أنّ هذا الإدراك الواعي يحوِّل الأزمة من كونها صدمةً إلى كونها دافعاً للعمل والنهضة. فالصحابة الكرام حين رأوا الأحزاب تتجمع حول المدينة قالوا: ﴿هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ (الأحزاب: 22)، فما زادهم ذلك إلا إيماناً وتسليماً. لقد علّمنا الوحي أنّ النظر إلى الأحداث ينبغي أن يمر عبر عدسة الوعد الإلهي لا عدسة الانهزام النفسي.
إنّ أخطر ما قد تصاب به الأمة ليس الاحتلال ولا المجازر ولا التهجير، وإنّما الهزيمة الداخلية، أي الاستسلام النفسي واليأس من التغيير. فحين يتملك الوهن قلب المسلم، يصبح عالة على أمّته، بل أداة إضافية في يد أعدائه؛ لأنّ العدو لا يحتاج أن يقتله إذا كان قد قتل إرادته من الداخل. وفي هذا يقول ابن خلدون في المقدمة: "المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب"، مشيراً إلى أنّ الهزيمة النفسية أخطر من الهزيمة العسكرية، لأنها تزرع الانكسار في روح الأمة.
ولذلك فإنّ الأمّة الجريحة – كما نراها اليوم – تنتظر من أبنائها أن يقفوا وقفة صلبة، لا أن يضيفوا إلى جراحها جرحاً جديداً اسمه اليأس. فكيف تعلق الأمّة آمالها على أناس انهزم أملهم في صدورهم؟ وكيف تنهض براياتها إذا كان حاملوها قد ركنوا إلى الأرض، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها؟
إنّ النظر إلى فلسطين وما يجري فيها من اعتداءات صهيونية متكررة ليس مدعاة لليأس، بل مدعاة لليقين أنّ المعركة الفاصلة بيننا وبينهم قادمة لا محالة، كما أخبر النبي ﷺ في الحديث الصحيح: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر أو الشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله» (رواه مسلم). فاليقين بوعد الله يجعل قسوة الواقع طريقاً إلى النصر، لا سبباً للقنوط.
ولا ينبغي أن يُضعفنا ما يقع على المسلمين من مذابح واضطهاد في بورما أو تركستان الشرقية (الإيغور) أو الهند، أو سوريا، أو اليمن، أو العراق، فكل تلك الدماء الزكية ليست هدراً في ميزان الله، بل هي رفعة واصطفاء. قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ (آل عمران: 169). إنّ الشهداء هم وقود الأمة، يُسقون بدمائهم شجرة الحرية والعزة، ولا يعرفون معنى الوهن؛ لأن قلوبهم معلقة بالآخرة أكثر من الدنيا.
وكذلك الحال في ليبيا والسودان وسائر بقاع الأمة الإسلامية؛ حيث يتعرض المسلمون لمحن متتابعة، لكن القرآن يؤكد أنّ هذه المحن ليست سوى سُنن كونية لتمحيص الصفوف وتربية الأمة: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ﴾ (آل عمران: 140). إنّها معركة طويلة، لكنها محسومة في نهايتها: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 139).
إنّ التحدي الأكبر اليوم هو في إعادة بناء القوة النفسية للأمة. فالقوة العسكرية والاقتصادية والسياسية لا يمكن أن تنهض ما لم تكن مدعومة بصلابة نفسية ووعي حضاري. وهذا يقتضي أموراً عدة:
1. التربية على الصبر والثبات: كما ربّى النبي ﷺ أصحابه في مكة على الصبر رغم قسوة العذاب.
2. إحياء روح الجهاد المعنوي: فالجهاد لا يقتصر على السيف، بل يشمل الكلمة والدعاء والموقف والوعي.
3. التمسك بالهوية الإسلامية: لأن فقدان الهوية هو أول طريق الانهيار.
4. العمل الجماعي: إذ لا يمكن لأمة أن تنهض أفراداً متفرقين، بل جماعة متماسكة بروابط الإيمان.
إنّ الأمة بحاجة إلى رجال ونساء لا تغلبهم الدنيا على آخرتهم، بل يتعاملون معها باعتبارها وسيلة لا غاية. وهذا لا يعني ترك العمل والبناء، بل يعني أن يكون العمل للدنيا مضبوطاً برؤية الآخرة، فلا يتحول إلى "وهن" يشلّ الإرادة.
ومن أعظم الأسلحة التي أوصانا بها الشرع في مواجهة الوهن: "الدعاء"، وخاصة في أوقات السحر. قال ﷺ: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» (رواه البخاري ومسلم). فسهام الليل لا تخطئ، وهي السلاح الذي لا يملكه العدو ولا يستطيع تعطيله.
وهكذا، فإن تجاوز الوهن النفسي يبدأ من إعادة الثقة بوعد الله، والنّظر إلى المحن بعين المؤمن الذي يعلم أنها سُلَّم نحو التمكين. وقد قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القصص: 5). هذا الوعد الإلهي ليس تاريخاً مضى، بل سنة جارية تتكرر، وستشهدها الأمة في حاضرها ومستقبلها كما شهدتها في ماضيها.
إنّ الأمة الإسلامية اليوم تقف عند مفترق طرق: إمّا أن تستسلم للوهن فتصبح غثاء بلا قيمة، وإمّا أن تنهض بالوعي والإيمان والعمل فتستعيد مكانتها. والمسؤولية تقع على كل فرد مسلم: أن يعد نفسه، ويثبت ولا يعجز، ويقتفي أثر السلف الذين تربوا في مدرسة النبوة. فإنّ الأمة لا تنهض بالخطب والشعارات، بل بالتربية العميقة، والعمل المتواصل، واليقين الصادق بوعد الله.
منار الدين الدقر
منار الدين الدقر، باحث وأكاديمي سوري، ومشارك في الثورة السورية منذ انطلاقتها الأولى، أحمل في قلبي قضايا وطني، وفي فكري هموم أمتي، وأسعى أن أجمع بين العمق العلمي، والنضج الفكري، والخبرة الميدانية، بروح ثائرة لا تنكسر، وبعقل ناقد باحث. خلال أكثر من عقد من العمل، مزجت بين التحصيل الشرعي، والتأهيل الأكاديمي المتعدد، والخبرة الإدارية والتربوية، والمسؤولية المجتمعية، في محاولة لبناء مشروع معرفي تربوي يكون امتدادًا لقيم الثورة، وأصالة العلم، وإنسانية الرسالة.