مقال

الفهم الصحيح لحديث:"من أحب أن يتمثل الناس له قياماً فليتبوأ مقعده من النار"

منار الدين الدقر
19 Aug 2025
إنّ من أعظم ما ابتُليت به الأمة في عصورها المتأخرة أن يتناول بعض الناس نصوص الكتاب والسنة بغير رسوخٍ في العلم، فيُسيئون الفهم ويُشوّهون المعنى، فيُفضي ذلك إلى آثار اجتماعية خطيرة من التباغض والتشاحن واتهام الناس بعضهم بعضاً بسوء الخُلق أو قلة الأدب، وكل ذلك نتيجة لتفسير غير محرر. ومن أبرز النماذج على ذلك ما وقع في تفسير حديث النبي ﷺ: «من أحب أن يتمثل الناس له قياماً فليتبوأ مقعده من النار»، الذي أخرجه الإمام أحمد (رقم 23417) وأبو داود (رقم 5229) وغيرهما، وصححه غير واحد من أهل العلم.
لقد فسّر بعض المعاصرين هذا الحديث بأن القيام لمن يدخل على الجالسين محرم بإطلاق، ولو كان الداخل من أهل العلم أو الفضل أو الوالدين أو الكبراء الذين أمر الشرع بتوقيرهم، فترتب على هذا الفهم المغلوط أن ترك كثير من الشباب القيام لمستحقيه، حتى صار يُنظر إليهم على أنهم عديمو الخُلق والتربية، بل وأدّى ذلك إلى قطيعة وجدال، وكأن النص النبوي أصبح سبباً في زرع البغضاء بين المسلمين، وهو ما يتنافى مع مقاصد الشريعة.
والحقيقة أن هذا التفسير في غاية البُعد عن ظاهر الحديث ومقاصده. إذ إن الوعيد النبوي في قوله: "فليتبوأ مقعده من النار "متوجهٌ إلى من أحبّ القيام له طلباً للتعظيم والمباهاة، لا إلى من قام لغيره إكراماً واحتراماً. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: "المراد بالوعيد من أحب أن يقوموا له إظهاراً للفخر والكبرياء، لا من قام له إكراماً واحتراماً (11/57) ". وهذا ما أكّده النووي في شرح صحيح مسلم بقوله: "فيه أن النهي إنما هو فيمن يقعد محباً لقيام الناس له على وجه الكبر والرياء، أما من قام لآخر على جهة الاحترام والإكرام فلا بأس به، بل قد يكون مستحباً" (9/223) ، فالفارق إذاً بين المحب للقيام طلباً للتعظيم وبين القائم إكراماً لمن يستحق فرقٌ بيّن عند أهل العلم.
ولم يقف الأمر عند مجرد توضيح المعنى، بل جاءت نصوص أخرى صريحة في استحباب القيام لأهل الفضل والحق. فقد روى البخاري (رقم 3043) أنّ النبي ﷺ قال للأنصار عند قدوم سعد بن معاذ رضي الله عنه: "قوموا إلى سيدكم"، وقد أجمع شراح الحديث على أنّ هذا القيام كان على وجه الإكرام والاحترام، لا على وجه التعظيم المذموم. قال القاضي عياض في إكمال المعلم: "فيه جواز القيام للرجل الكبير في الفضل والدين والبأس والجاه إكراماً له" (8/45) ، وذكر ابن بطال أنّ فيه دلالة على استحباب القيام لمن يُستحق توقيره (شرح البخاري، (7/84).
ومن ثمّ، فإنّ الأخذ بظاهر الحديث دون جمع بين النصوص الأخرى المتعلقة بالقيام هو عين الخطأ الذي حذّر منه العلماء. فإنما تُفهم السنة بضم أطرافها ورد المتشابه إلى المحكم، لا بأخذ نصٍ مجردٍ عن سياقه أو معارضٍ لنصوص أخرى. وقد قال الشاطبي في الموافقات "النصوص إنما يُفهم بعضها ببعض، ومن اقتصر على بعضها دون بعض فقد ضلّ وأضلّ". (3/327)
أمّا على الصعيد الاجتماعي، فإن الانحراف في فهم هذا الحديث انعكس سلوكاً سلبياً على فئة من الشباب الذين امتنعوا عن القيام لآبائهم وأمهاتهم وكبارهم بحجة الورع، فاتهمهم الناس بسوء الأدب وانعدام الخُلق. وهذا أثر تربوي خطير، لأنّ التربية الإسلامية قائمة على تعظيم حق الوالدين وبرّهما، قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: 23]. وقد عُدّ القيام بين يدي الوالدين من صور الإكرام الظاهرة التي تعكس البر والاحترام.
كما أنّ من مظاهر الخلل أنّ الولد يدخل على أبيه أو أمه أو كبار أقاربه وهو جالس لا يتحرك، في مشهد يدل على ضعف المروءة وانعدام التوقير، وقد عدّ العلماء ذلك من خوارم المروءة التي تسيء إلى صاحبها. قال الماوردي في أدب الدنيا والدين: "من تمام المروءة توقير الكبير والقيام له إذا دخل، وإظهار التواضع له".
إنّ الواجب على طلاب العلم والشباب خاصة أن يتأنوا في تلقي الأحكام وألا يبنوا مواقفهم على اجتزاء نصوص دون إحكام قواعد الفهم التي سار عليها سلف الأمة. فقد قال الإمام مالك كلمة جامعة " لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها" (الاعتصام للشاطبي، 1/48). ومن تمام الاقتداء بالسلف أنّ نفهم النصوص كما فهموها، فلا نُسقط وعيداً في غير موضعه، ولا نضيّق واسعاً سنّه النبي ﷺ وأقرّه أصحابه.
وخلاصة الأمر أنّ الحديث الشريف لا يدل على تحريم القيام لذوي الفضل مطلقاً، وإنّما وعيده موجّه إلى من يطلب القيام تعظيماً ورياءً، وأمّا القيام إكراماً واحتراماً فهو سنّة جارية دلّت عليها نصوص صحيحة، وأقرّها الأئمة المحققون. فكم من خللٍ أحدثه سوء الفهم، وكم من بغضاءٍ زرعها اجتزاء النصوص عن سياقها! وإنّ الواجب أن تُبنى المواقف على فهم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، لا بمجرد اجتهادات مضطربة أو آراء غير محررة.

منار الدين الدقر

منار الدين الدقر، باحث وأكاديمي سوري، ومشارك في الثورة السورية منذ انطلاقتها الأولى، أحمل في قلبي قضايا وطني، وفي فكري هموم أمتي، وأسعى أن أجمع بين العمق العلمي، والنضج الفكري، والخبرة الميدانية، بروح ثائرة لا تنكسر، وبعقل ناقد باحث. خلال أكثر من عقد من العمل، مزجت بين التحصيل الشرعي، والتأهيل الأكاديمي المتعدد، والخبرة الإدارية والتربوية، والمسؤولية المجتمعية، في محاولة لبناء مشروع معرفي تربوي يكون امتدادًا لقيم الثورة، وأصالة العلم، وإنسانية الرسالة.

التعليقات والمناقشة

إضافة تعليق

شاركنا رأيك حول هذا البحث

لا توجد تعليقات بعد

كن أول من يعلق على هذا البحث

أبحاث ذات صلة

مزيد من المقالات في نفس التخصص

والعاديات ضبحا
مقال
Dec 08
08 Dec 2025

والعاديات ضبحا

يحتل القسم القرآني موقعًا بالغ الأهمية في الخطاب الإلهي، فهو ليس مجرد افتتاحية بلاغية، وإنّما يحمل د...

قراءة البحث