لقد أشار القرآن الكريم إلى أثر صلاح الوالدين في صلاح الأبناء من بعدهم، فجعل الصلاح سبباً في حفظ الذرية ورعايتها، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾ [الكهف: 82]، فحُفظا بصلاح أبيهما، وهذا من أعظم الشواهد على أن التربية الصالحة جهاد ممتدّ الأثر، وأن آثارها لا تقف عند جيل واحد بل تتعداه إلى أجيال لاحقة. قال ابن كثير في تفسيره: "فيه دلالة على أن الرجل الصالح يُحفظ في ذريته وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة" تفسير ابن كثير، 5/181.
لكن الواقع المؤلم يكشف عن صور من التفريط الذي يهدد صلاح الأبناء. فكيف يُرتجى من طفل أن يحفظ القرآن أو الحديث وأمه تمضي الساعات الطوال أمام شاشات التواصل الاجتماعي، ولا تصبر على تعليمه نصف صفحة من كتاب الله؟ وكيف يتوقع أن يكون الولد زاهداً أو عالماً أو قائداً، والبيت يضج بالصراخ والخصومات، والمال يُنفق على الكماليات والمظاهر أكثر مما يُنفق على التربية والتعليم والكتب النافعة؟ إنّ التربية بالقدوة أبلغ من التربية بالكلام، ففاقد الشيء لا يعطيه، ولا يمكن للطفل أن يتشرب معاني السكينة والاعتزاز والجدية وهو لا يرى منها إلا صوراً متناقضة في سلوك والديه.
وقد أثبتت دراسات علم النفس التربوي أنّ أنماط السلوك الوالدي تترك آثاراً مباشرة على تكوين شخصية الطفل وثقته بنفسه، وأنّ الأطفال الذين يتعرضون للسخرية أو النقد المستمر ينشؤون أقل ثقة وأكثر عرضة للقلق .وإذا كان هذا ثابتاً عند علماء التربية المحدثين، فإن الشريعة الإسلامية سبقت إلى تقريره، فقد قال النبي ﷺ: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته" (رواه البخاري ومسلم)، فجعل مسؤولية الوالدين عن أبنائهم مسؤولية شرعية محاسَب عليها الإنسان أمام الله.
ومن أخطر صور التفريط في زماننا أن يُعطى الطفل هاتفاً ذكياً منذ نعومة أظفاره، ويُترك يتجول بين منصات العالم الرقمي من غير توجيه أو رقابة، فيتعرض لمحتويات تهدم دينه وأخلاقه وعقله. وقد أظهرت دراسة حديثة لمنظمة الصحة العالمية (2021) أن الاستخدام المفرط للأجهزة الذكية في سن مبكرة يرتبط بزيادة نسب القلق والاكتئاب والسلوكيات العدوانية لدى الأطفال والمراهقين. وهذه النتائج تتقاطع مع ما حذّر منه العلماء الربانيون من فتح أبواب الفتن على الناشئة بغير حساب.
والأمر لا يقتصر على الأمهات وحدهن، بل يشمل الآباء أيضاً، إذ يغيب كثير منهم عن متابعة أبنائهم، مشغولين بأعمالهم أو ملذاتهم، تاركين الأم تواجه مسؤولية التربية وحدها، فيحدث الخلل ويقع النقص. والتربية أمانة لا تستقيم إلا بتكامل دور الوالدين، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم: 6]، فجعل الوقاية واجباً مشتركاً لا ينفرد به طرف دون الآخر.
إنّ الولد الصالح لا يُنتظر أن يأتي من فراغ أو من بيتٍ غافل، وإنما يُصنع بالصبر والمجاهدة وتحمّل مشاق التربية والتعليم، وتقديم الآخرة على الدنيا. فإذا صلح الأبوان وجاهدا في تربية أبنائهما كان صلاح الجيل ثمرة طبيعية، وصلاح الجيل هو صلاح الأمة كلها. وهذا ما أشار إليه بعض المفسرين في قوله تعالى: ﴿وكان أبوهما صالحاً﴾، إذ جعل صلاح الوالد سبباً في حفظ الذرية وقيامها.
وهكذا يتضح أن سؤال"من أين يأتي الولد الصالح؟" ليس سؤالاً استنكارياً فحسب، بل هو سؤال مصيري يضع الآباء والأمهات أمام مسؤولياتهم. والجواب عنه أنّ الولد الصالح يأتي من بيتٍ يتقدّم فيه القرآن على الهاتف، والقدوة على الصراخ، والتربية على المظاهر، والعلم على اللهو، والصلاح على الغفلة. وما عدا ذلك فانتظار جيل صالح مع تفريط في أسباب الصلاح، أشبه بالحرث في أرض سبخة لا تنبت زرعاً.
منار الدين الدقر
منار الدين الدقر، باحث وأكاديمي سوري، ومشارك في الثورة السورية منذ انطلاقتها الأولى، أحمل في قلبي قضايا وطني، وفي فكري هموم أمتي، وأسعى أن أجمع بين العمق العلمي، والنضج الفكري، والخبرة الميدانية، بروح ثائرة لا تنكسر، وبعقل ناقد باحث. خلال أكثر من عقد من العمل، مزجت بين التحصيل الشرعي، والتأهيل الأكاديمي المتعدد، والخبرة الإدارية والتربوية، والمسؤولية المجتمعية، في محاولة لبناء مشروع معرفي تربوي يكون امتدادًا لقيم الثورة، وأصالة العلم، وإنسانية الرسالة.