فمن الناحية التاريخية المباشرة، يشير بوتين إلى الدور الروسي الحاسم في هزيمة ألمانيا النازية. فالمؤرخون يجمعون على أنّ الاتحاد السوفيتي قدّم أثماناً بشرية ومادية ضخمة لإنقاذ أوروبا من الاحتلال النازي، حتى أنّ ستالين كان يفاخر بأنّ الجيش الأحمر هو من كسر شوكة هتلر، وأنّ النصر لم يكن ليتحقق لولا صمود الروس في معارك فاصلة مثل ستالينغراد (1942-1943) التي وصفها المؤرخ إيان كيرشو بأنّها "نقطة التحول في مسار الحرب" وهذا ما يذكّر به بوتين ترامب، في صورة من صور الامتنان السياسي المبطّن: لولا روسيا لما هُزمت ألمانيا ولما بقيت أوروبا، بل ولما بقيت بريطانيا نفسها خارج قبضة النازية.
أمّا في السياق الآسيوي، فيشير بوتين ضمناً إلى أنّ الولايات المتحدة لم تكن لتكسر شوكة اليابان وحدها، إذ إنّ دخول الاتحاد السوفيتي الحرب ضد اليابان في أغسطس 1945 عجّل بانهيار الإمبراطورية اليابانية، بالتوازي مع الضربتين النوويتين على هيروشيما وناغازاكي. وهنا يذكّر بوتين ترامب أنّ واشنطن وُجدت شرعية "النووي" ضمن سياق تحالف أوسع، وأنّ الانتصار لم يكن أمريكياً صرفاً بل نتيجة منظومة دولية شاركت فيها موسكو بشكل أساسي.
لكن البعد الأخطر في خطاب بوتين هو البعد الديني-الحضاري. فحديثه عن "أعداء مشتركين" ليس مقصوراً على ألمانيا واليابان، بل يتضمن إحالة إلى التحالف الغربي- الروسي ضد "الخلافة الإسلامية"، التي اعتُبرت "معضلة مشتركة" للقوى الأوروبية والروسية على السواء منذ القرن التاسع عشر. فحرب القرم (1853-1856) والتحالفات الأوروبية ضد الدولة العثمانية مثال واضح على ذلك، ثم كان تفكيك الخلافة سنة 1924 تتويجاً لهذا المسار. ومن ثمّ فإن بوتين في خطابه يستدعي ما يسميه بعض المفكرين "الحلف المقدس الجديد" الذي جمع القوى المسيحية في مواجهة ما اعتبرته "التحالفات الإسلامية".
بهذا المعنى، فإنّ خطاب بوتين لترامب ليس خطاب مجاملة، بل هو رسالة مشفرة تقول: "لقد قاتلنا معاً لإسقاط الإمبراطوريات (ألمانيا واليابان والعثمانيين)"، وأعدنا تشكيل النظام العالمي؛ فلنتفق اليوم قبل أن يُقصينا الزمن عن المسرح الدولي. وهنا يظهر البعد النفسي-الاستراتيجي: بوتين يربط الماضي بالحاضر ليقول لترامب إنّ روسيا وأمريكا تواجهان مصيراً مشتركاً في معركة البقاء داخل نظام دولي سريع التحول.
غير أنّ هذا الخطاب لا يُستقبل بالدرجة نفسها في العواصم الأخرى. فالولايات المتحدة – خاصة في عهد ترامب – كانت تميل إلى قراءة براغماتية لا تعبأ كثيراً باستدعاء التاريخ. ترامب ينظر إلى خطاب بوتين على أنّه كلاسيكي متقادم، إذ يركز هو على المصالح المباشرة: الاقتصاد، التفوق الصناعي، والسيطرة على الأسواق.
أوروبا، بالمقابل، ترى في خطاب بوتين تهديداً وجودياً؛ فاستدعاء صورة "التحالف الكبير" ضد أعداء الأمس يوحي بإمكانية عودة الثنائية القطبية (موسكو-واشنطن) بما يهمش الدور الأوروبي ويضعه في موقع التابع.
أمّا الصين، فهي الأكثر حساسية تجاه هذا النوع من الخطاب. فبينما تجد فيه ما يعزز سردية "تعدد الأقطاب" ونهاية الهيمنة الأمريكية، إلا أنّها تتحفظ على الإشارات الدينية أو الحضارية في خطاب بوتين، لأنّها تخشى من توظيفها ضدها في ملفات الأقليات الدينية (كالأويغور) أو في نزاعاتها الإقليمية. ولذلك تؤكد الصين على التمسك بالقانون الدولي تحت مظلة الأمم المتحدة، في محاولة للتوفيق بين صعودها الاقتصادي ورفضها للهيمنة الأمريكية من جهة، وتجنبها الدخول في تحالفات ذات بعد ديني-أيديولوجي من جهة أخرى.
أمّا بريطانيا، التي وصفها بعض المحللين بـ "الأفعى السياسية" لمرونتها في تبديل المواقف، فهي تتحرك بخبث سياسي: تدفع فرنسا لمواجهة روسيا باسم أوروبا، وتلوّح بورقة الدعم الأمريكي، لكنّها في الوقت ذاته تشتري الغاز الروسي عبر وسطاء مثل الهند، وتفتح منصات بديلة للتفاوض عبر السعودية ودبي وتركيا. إنّها السياسة البريطانية التقليدية القائمة على مبدأ "فرّق تسد"، وإدارة الأزمات عبر الوكلاء لا عبر الانخراط المباشر.
النتيجة النهائية أنّ بوتين أراد بخطابه أن يضع ترامب أمام مسؤولية تاريخية، بينما تلقاه الآخرون وفق حساباتهم الخاصة. الكل يقرّ بأنّ ثمة ضرورة للتفاهم، لكن الجميع أيضاً يتجنب الالتزام المباشر الآن. إنّها لحظة مراوغة كبرى في النظام الدولي: الكل يتفقون على أنّهم سيتفقون ربما لاحقاً، لا اليوم. وفي الأثناء، يمضي الزمن سريعاً، كالسيف القاطع، يجزّ أطراف القوى التقليدية ويعيد تشكيل خريطة العالم بإيقاع صارم لا يرحم المترددين.
منار الدين الدقر
منار الدين الدقر، باحث وأكاديمي سوري، ومشارك في الثورة السورية منذ انطلاقتها الأولى، أحمل في قلبي قضايا وطني، وفي فكري هموم أمتي، وأسعى أن أجمع بين العمق العلمي، والنضج الفكري، والخبرة الميدانية، بروح ثائرة لا تنكسر، وبعقل ناقد باحث. خلال أكثر من عقد من العمل، مزجت بين التحصيل الشرعي، والتأهيل الأكاديمي المتعدد، والخبرة الإدارية والتربوية، والمسؤولية المجتمعية، في محاولة لبناء مشروع معرفي تربوي يكون امتدادًا لقيم الثورة، وأصالة العلم، وإنسانية الرسالة.