أولًا: مفهوم ربط القلب في القرآن الكريم
يستخدم القرآن الكريم لفظ "ربط" بمعنى الشدّ والإحكام، وهو ضدّ الانفلات والتفرق. ومن ثمّ فإن ربط القلب يعني تثبيته وتسكين اضطرابه وتوجيهه نحو غاية عليا تمنحه الطمأنينة في لحظة الفزع[1]. ومن هنا نفهم أنّ هذا الفعل هو عناية إلهية خاصة يمنحها الله لعباده المؤمنين عند اشتداد الخطوب، فيقوي مداركهم، ويثبّت وجدانهم، ويحول دون انهيارهم النفسي.
ثانيًا: أم موسى وثبات قلب الأم المفجوعة
من أبرز المشاهد الدالة على هذا المعنى ما قصّه الله عن أم موسى: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَآ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ﴾ [القصص: 10]. إنّ مشهد إلقاء الأم وليدها في اليمّ يختصر أعظم درجات الفقد، ومع ذلك فقد منحها الله ثباتًا استثنائيًا يحول دون انهيارها أمام هذا الموقف. وقد علق الطاهر بن عاشور بأنّ هذا الربط هو "إمدادٌ من الله بالقوة على الصبر"[2]، وهو ما يؤكد أنّ الشدائد العظمى يلزمها مدد رباني يتجاوز الطبيعة البشرية المعتادة.
ثالثًا: غزوة بدر وربط القلوب بالنصر
تجلّى هذا المعنى أيضًا في غزوة بدر، حيث كان المسلمون قلة ضعيفة في مواجهة قوة عظمى، ومع ذلك فقد أرسل الله المطر عليهم ليثبت أقدامهم ويطهّر قلوبهم: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةًۭ مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءًۭ لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَٰنِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلْأَقْدَامَ﴾ [الأنفال: 11]. وهنا نلحظ أنّ الربط على القلوب اقترن بالتطهير وإزالة وساوس الشيطان، مما يعني أنّ النصر لا يتحقق إلا حين تتطهر النفس من الشك والريبة، ويثبت القلب باليقين، ويتوازن الجسد والروح في مواجهة العدو.
رابعًا: أصحاب الكهف والرباط الإيماني للشباب
أمّا أصحاب الكهف، فقد مثّلوا نموذجًا لثبات القلوب في مواجهة ضغط اجتماعي وسياسي هائل: ﴿وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرضِ لَن نَّدعُوَاْ مِن دُونِهِۦٓ إِلَٰهٗا لَّقَد قُلنَآ إِذٗا شَطَطٗا﴾ [الكهف: 14]. لقد كان فرارهم بدينهم إلى كهف مظلم رمزًا لمواجهة الاضطهاد بالثبات الإيماني، وقد مكّنهم الله من قلوبٍ راسخة لا تهزّها الجموع ولا ترهبها السطوة. ومن هنا يبرز البعد التربوي: أنّ ربط القلوب هو ما يحوّل فئة قليلة مستضعفة إلى أيقونة صمود تتناقلها الأجيال.
خامسًا: الأبعاد النفسية لربط القلوب
من زاوية علم النفس المعاصر، يمكن قراءة هذه النصوص في إطار ما يعرف اليوم بـ"المرونة النفسية" (Psychological resilience)، أي قدرة الإنسان على التكيف مع الضغوط الشديدة دون أن يفقد توازنه الداخلي. والقرآن لا يكتفي بوصف هذه الحالة بل يحدد مصدرها: العناية الإلهية التي تمنح الإنسان طاقة غير مألوفة للتعامل مع المحن. وهنا يلتقي العلم الحديث مع القرآن في الإقرار بأنّ الصمود ليس مجرد خصلة مكتسبة بل يحتاج أيضًا إلى إمداد يتجاوز الطاقة الفردية.
سادسًا: البعد التربوي والتطبيقي
إنّ إدراك معنى ربط القلوب يحفز المسلم على السعي لاكتساب مقوماته، ومنها:
1. تعميق الإيمان: فالثبات لا يكون إلا على أساس يقين راسخ بالله وعدله وحكمته.
2. العمل الصالح: إذ يواسي المؤمن نفسه بالباقيات الصالحات حتى إن فقد المال والبنين.
3. المجاهدة النفسية: في مقاومة وساوس الشيطان والتسخط والجزع.
4. التربية الجماعية: فكما ثبتت قلوب أهل بدر جماعة، يثبت قلب الأمة إذا اجتمع على الحق.
إنّ "ربط القلوب" مفهوم قرآني جامع يجمع بين العناية الإلهية والتربية الإنسانية، ويؤكد أنّ مواجهة الشدائد تحتاج إلى شدائد أخرى من نوع خاص: شدائد في الإيمان، وشدائد في الصبر، وشدائد في العمل الصالح. ومن تأمل مشاهد أم موسى، وأصحاب بدر، وأهل الكهف، أدرك أنّ ما يميز المؤمنين ليس غياب المحن عن حياتهم، وإنّما ما يغشاهم من مدد إلهي يجعل قلوبهم أثبت من الجبال. ولأجل هذا النموذج الرباني فلنعمل، فهو وعد للمؤمنين أنّ الصبر لن يضيع، وأنّ الثبات في الشدة هو طريق العزة والنصر.
________________________________________
المراجع
[1] الطبري، محمد بن جرير. جامع البيان عن تأويل آي القرآن. بيروت: دار الفكر، 2000.
[2] ابن عاشور، محمد الطاهر. التحرير والتنوير. تونس: الدار التونسية للنشر، 1984.
[3] ابن كثير، إسماعيل بن عمر. تفسير القرآن العظيم. بيروت: دار إحياء التراث العربي، 2003.
[4] القرطبي، محمد بن أحمد. الجامع لأحكام القرآن. القاهرة: دار الكتب المصرية، 2006.
[5] القرضاوي، يوسف. الإيمان والحياة. القاهرة: مكتبة وهبة، 1999.
منار الدين الدقر
منار الدين الدقر، باحث وأكاديمي سوري، ومشارك في الثورة السورية منذ انطلاقتها الأولى، أحمل في قلبي قضايا وطني، وفي فكري هموم أمتي، وأسعى أن أجمع بين العمق العلمي، والنضج الفكري، والخبرة الميدانية، بروح ثائرة لا تنكسر، وبعقل ناقد باحث. خلال أكثر من عقد من العمل، مزجت بين التحصيل الشرعي، والتأهيل الأكاديمي المتعدد، والخبرة الإدارية والتربوية، والمسؤولية المجتمعية، في محاولة لبناء مشروع معرفي تربوي يكون امتدادًا لقيم الثورة، وأصالة العلم، وإنسانية الرسالة.