مقال

التدين المراهق بين الانبهار المبكر والنضج الديني

منار الدين الدقر
19 Aug 2025
يُعَدّ التدين المبكر مرحلة متكرّرة في التجربة الدينية الإنسانية، خصوصًا لدى فئة الشباب في بدايات التزامهم. وفي هذه المرحلة، التي يمكن وصفها اصطلاحًا بـ"التدين المراهق"، يتسم السلوك الديني بالحماسة المفرطة والاندفاع العاطفي، مقابل غياب النضج العلمي والاتزان الفكري. في هذه المرحلة يغلب فيها التسرع في إصدار الأحكام، والانبهار المفرط بالرموز أو التنظيمات، والبحث عن هوية واضحة من خلال الانتماء إلى جماعة أو شيخ أو خطاب فكري محدد. وهذا ما يفسّر كثرة الشعارات الصاخبة والتصنيفات الحادة التي تميّزها، وهو ما نبه إليه الإمام الغزالي حين أشار إلى خطورة الاقتصار على التقليد دون تمحيص، وضرورة الانتقال من "إيمان العوام" إلى "إيمان أهل البرهان".
قبل عام 2011م، اتخذ "التدين المراهق" شكلين بارزين؛ أولهما الانجذاب الشديد إلى التنظيمات الإسلامية، حيث كان بعض الشباب يختزل الأمة كلها في جماعة واحدة، ينظر إليها بوصفها المخلّص الوحيد. أو الشكل الثاني الذي تمثل في التبعية المطلقة لبعض الشيوخ، بحيث يُنظَر إليهم على أنهم حُرّاس العقيدة وأعلم أهل الأرض، فيُمنَحون ألقابًا مبالغًا فيها مثل "أسد التوحيد" أو "حامي العقيدة". وكلا الشكلين عكس حاجة نفسية واجتماعية عميقة: "الانتماء والبحث عن الحلقة المفقودة للخروج من الواقع المرير". لكن مع مرور الزمن وتراكم الخبرات، يكتشف الإنسان أنّ الدين والأمة أوسع من تلك التصورات الضيقة، وأنّ التعظيم المطلق لأشخاص أو تنظيمات لا يليق بمنهج الإسلام الذي أرسى قواعد الشورى والاجتهاد والتعددية.
غير أنّ التحولات السياسية والاجتماعية بعد عام 2011م، وما رافقها من تفكك في البنى التنظيمية وضعف للمشيخية التقليدية، أعادت إنتاج الظاهرة في صورة جديدة أكثر حدّة. فقد ظهر تيار يُكفّر أعلام الأمة كالإمام أبي حنيفة، والنووي، وابن حجر العسقلاني، بل ويُضلّل المدارس العقدية الكبرى كالمدرسة الأشعرية والماتريدية التي شكّلت معالم ومدارس عقدية عبر التاريخ. هذا الخطاب يقدّم نفسه بوصفه الحارس الأخير للعقيدة، فيستقطب بعض الشباب المبتدئين الذين يبحثون عن يقينيات صلبة وأدوار بطولية، دون إدراك أنّ هذا الخطاب يتغذى على النقد والهجوم لا على البناء والإصلاح. وهو ما يتفق مع ما نبّه إليه الأئمة إلى أنّ "القول بالحق لا يقوم على التشنيع والخصومة وإنّما على البيان والعدل"، فكيف بمن يجعل سفاهة القول منهجًا واحتقار العلماء شعارًا؟
إنّ خطورة التدين المراهق تكمن في أنّه يهدر سنوات الشباب في معارك وهمية وجدالات عقيمة، ويشوّه صورة الدين عبر خطاب متشنج يفتقد إلى الأدب مع الأئمة والعلماء. بل إنّ كثيرًا من الشباب يكتشفون لاحقًا أنّ الرموز الذين تبعوهم لم يكونوا سوى دعاة ضلال أو أصحاب مصالح، فيدخلون في أزمة وجودية قد تفضي إلى الانكسار النفسي أو حتى الانسلاخ من الدين ذاته. وقد أشار مالك بن نبي في تحليلاته لظاهرة "القابلية للاستعمار" إلى أنّ المجتمعات التي تفقد البوصلة الفكرية تُساق بسهولة وراء الشعارات والرموز الزائفة، وهو ما ينطبق على هؤلاء الشباب في بداية التزامهم.
ولكي تُعالج هذه الظاهرة، لا بد من استراتيجية متكاملة تقوم على ثلاثة أركان:
أولًا، التربية العلمية المتدرجة التي تُقدّم للشباب أصول الفقه والعقيدة والسيرة بلغة مبسطة، بعيدًا عن السطحية.
ثانيًا، فتح آفاق التعددية الفكرية بتعريفهم بثراء التراث الإسلامي وتنوع مدارسه، ليُدركوا أن الاختلاف سنّة ماضية وليس طارئًا.
ثالثًا، تقديم القدوة المتوازنة من العلماء الذين يجمعون بين عمق العلم ورحابة الخُلق، بدلًا من الأصوات المتشددة التي تتغذى على الهجوم والتكفير.
وعلى هذا يمكن القول إنّ "التدين المراهق" مرحلة طبيعية في رحلة الإيمان، لكنّ خطورتها تكمن في أن تتحول إلى حالة دائمة تُعطّل النضج الديني والفكري. وإنّ الرشد في التدين لا يتحقق إلّا بالجمع بين حماسة الشباب وحكمة العلم، وبين قوة الالتزام ولين التعامل والخطاب.
فالحذر الحذر من الجدل العقيم، فالحق لا يُنال إلا بالعلم والأدب والخلق، لا بالصراخ والخصام. وإذا أدرك الشباب هذه الحقيقة في وقت مبكر، فإنهم يوفرون على أنفسهم سنوات طويلة من الضياع في "اللاشيء"، ويضعون أقدامهم على طريق الإيمان الراشد الذي يبني الفرد والأمة معًا.

منار الدين الدقر

منار الدين الدقر، باحث وأكاديمي سوري، ومشارك في الثورة السورية منذ انطلاقتها الأولى، أحمل في قلبي قضايا وطني، وفي فكري هموم أمتي، وأسعى أن أجمع بين العمق العلمي، والنضج الفكري، والخبرة الميدانية، بروح ثائرة لا تنكسر، وبعقل ناقد باحث. خلال أكثر من عقد من العمل، مزجت بين التحصيل الشرعي، والتأهيل الأكاديمي المتعدد، والخبرة الإدارية والتربوية، والمسؤولية المجتمعية، في محاولة لبناء مشروع معرفي تربوي يكون امتدادًا لقيم الثورة، وأصالة العلم، وإنسانية الرسالة.

التعليقات والمناقشة

إضافة تعليق

شاركنا رأيك حول هذا البحث

لا توجد تعليقات بعد

كن أول من يعلق على هذا البحث

أبحاث ذات صلة

مزيد من المقالات في نفس التخصص

والعاديات ضبحا
مقال
Dec 08
08 Dec 2025

والعاديات ضبحا

يحتل القسم القرآني موقعًا بالغ الأهمية في الخطاب الإلهي، فهو ليس مجرد افتتاحية بلاغية، وإنّما يحمل د...

قراءة البحث