إنّ في داخل كل إنسان طاقاتٍ كامنة لو انطلقت لغيّرت مجرى حياته، وأسهمت في نهضة مجتمعه وأمّته. لكنّ كثيراً من الناس يحصرون عطاءهم في دائرة ضيّقة؛ يعملون ما دام العمل ممتعاً أو ملائماً لميولهم، وينصرفون إذا تعارض مع راحتهم أو تجاوز حدود رغباتهم. وهنا يغيب عن الأذهان أنّ العمل ليس مجرّد هوى يُتبع، بل هو تكليف وأمانة. فالأمانة في التصور الإسلامي ليست اختياراً رفاهياً، بل مسؤولية وجودية تتعلق بعمارة الأرض وإصلاح المجتمع، قال تعالى: "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان" (الأحزاب: 72).
وليس الامتحان الأكبر للإنسان في أن يُعطى أو يُمنع، بل في أن يُبتلى: أيبذل مما أُوتي، أم يضنّ على نفسه ودعوته وأمّته؟ إنّ القيود التي تُكبّل العطاء ما هي إلا صورٌ من صور الاختبار، ليُنظر أيتقدّم العبد أم يتراجع، أيسمو إلى مقام الباذلين المخلصين أم يكتفي بظلّ الراحة ومتاع الدنيا الزائل.
ولئن كان العطاء فريضة، فإنّ المدهش أنّ ميزان الله لا يُقيم الأشياء بظاهرها وحجمها المادي، بل بصدقها وإخلاصها. فدمعة صادقة قد تسبق في المنزلة آلاف الركعات، وكلمة خير عابرة قد تُفتح بها أبواب الجنان، وعمل يسير في أعين الناس قد يكون في ميزان الله أضعافاً مضاعفة إذا أُريد به وجهه الكريم. وهنا يكمن سرّ العبودية: أنّك لا تدري بأي خطوةٍ يرفعك الله، ولا بأي عملٍ يستقبلك بالرضا والقرب.
ومن هنا فإنّ النية تصبح هي البوصلة التي تُوجّه كل جهد، صغيراً كان أو كبيراً. فالمرء إذا استودع الله أعماله وخطواته، ردّها الله إليه ودائع هداية يوم القيامة، يوم تُكشف السرائر وتظهر آثار القلوب. وإنّ صلاح القلب وبناء الذات لا ينفصلان عن صلاح الأمة؛ فإصلاح الفرد مقدمة لإصلاح المجتمع، وكل خطوة يخطوها المرء نحو تزكية نفسه إنما تُمهّد طريقاً لغيره، وتُقيم لبنة في مشروع حضاري أكبر.
غير أنّ العلاقة بين الفرد والمجتمع علاقة تبادلية معقّدة؛ فحين يضعف أحدهم قد يجرّ وراءه قلوباً أخرى تتباطأ في المسير، وحين يقوى يكون عوناً وسنداً لغيره. والخطر كل الخطر أن يتحوّل تقصير الفرد إلى خذلانٍ جماعي، إذ تنتظر الأمة من أبنائها أن يشدّوا أزرها ويعينوا بعضها بعضاً في مسيرة التفرّد والتميّز. فالأمة لا تنهض إلا بجمع طاقاتها، والفرد لا يكتمل عطاؤه إلا في سياقها.
وهكذا، فإنّ الميل إلى الراحة ليس مجرّد خيار شخصي، بل قضية أخلاقية ومصيرية. إذ إنّ الاستسلام لكسل الجسد يفضي إلى تعطيل رسالة الروح، بينما البذل والعمل يفتحان أبواب الرضا والتوفيق والإحسان.
إنّ كل لحظة من لحظات العمر امتحان، وكل طاقة مودعة فينا أمانة، وكل جهدٍ يُبذل لبنة في بناء لا يكتمل إلا بتكامل الأفراد والمجتمعات.
فليكن سعي الإنسان إذاً سعيَ من استحضر أنّ العطاء امتحان، وأنّ النية روح العمل، وأنّ كل خطوةٍ قد تكون هي الفاصلة بين رضا الله وسخطه. وليكن حذراً من أن يتقاعس، فيخذل غيره وهو لا يشعر، فالمسؤولية التي نحملها ليست عن أنفسنا وحدنا، بل عن أمة تنتظر منّا أن نكون في حجم الرسالة، وأن ننهض بالعطاء الذي يليق بمن اختاره الله ليكون خليفةً في الأرض.
منار الدين الدقر
منار الدين الدقر، باحث وأكاديمي سوري، ومشارك في الثورة السورية منذ انطلاقتها الأولى، أحمل في قلبي قضايا وطني، وفي فكري هموم أمتي، وأسعى أن أجمع بين العمق العلمي، والنضج الفكري، والخبرة الميدانية، بروح ثائرة لا تنكسر، وبعقل ناقد باحث. خلال أكثر من عقد من العمل، مزجت بين التحصيل الشرعي، والتأهيل الأكاديمي المتعدد، والخبرة الإدارية والتربوية، والمسؤولية المجتمعية، في محاولة لبناء مشروع معرفي تربوي يكون امتدادًا لقيم الثورة، وأصالة العلم، وإنسانية الرسالة.