مقال

فقه إدارة الخلافات العلمية والدعوية في ضوء الكتاب والسنة وسير السلف

منار الدين الدقر
19 Aug 2025
شهدت الأمة الإسلامية، منذ نشأتها وحتى يومنا هذا، صورًا متعددة من الخلافات والنزاعات الفكرية والفقهية والدعوية، تراوحت بين ما هو محمود يثري الساحة العلمية، وما هو مذموم يضعف وحدة الصف ويمزق روابط الأخوة.
ومع تطور وسائل الإعلام والاتصال، أصبحت هذه الخلافات تُعرض على الملأ، وأحيانًا تتجاوز حدود الأدب والإنصاف، فتتحول من نقاش علمي إلى خصومة شخصية، ومن اختلاف رأي إلى عداوة صريحة، ولئن كانت هذه الظاهرة حاضرة في تاريخنا، فإن التاريخ أيضًا يبين أنّ سلف الأمة ضبطوا خلافاتهم بضوابط علمية وشرعية، جعلت آثارها الإيجابية تغلب على سلبياتها، بينما يؤدي فقدان تلك الضوابط إلى فتنة وفرقة.
1- دفنت العصمة بدفن المعصوم
أول ما يجب أن يُدركه طالب العلم وكل مسلم أنّ العصمة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قد انتهت، وأنّ المعصوم وحده هو رسول الله، كما قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ} [النجم: 3-4]، وهذا ما أجمع عليه أهل السنة والجماعة، أمّا غيره من البشر، من صحابي أو إمام أو عالم، فهو مأخوذ من قوله ومردود عليه، كما قال الإمام مالك: "كلٌّ يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر". وقد كان الصحابة أنفسهم يقرون بخطئهم ويرجعون عنه، كما في قصة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أراد تحديد المهور، فاعترضته امرأة بقول الله: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} [النساء: 20]، فقال: "أصابت امرأة وأخطأ عمر". وهذا المبدأ يجعل المسلم لا يتعصب لشخص كائنًا من كان، ولا يجعل الخطأ سببًا لإسقاط كل خيره، بل يتعامل مع الأشخاص على قاعدة العدل، فيُقبل منهم ما وافق الحق، ويُرد ما خالفه بالدليل.
2- إقالة ذوي الهيئات عثراتهم
من القواعد النبوية المحكمة في إدارة الخلاف أن يُستر على أصحاب الفضل إذا صدرت منهم هفوة عارضة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود" (رواه أبو داود والنسائي). وذوو الهيئات هم أهل المروءة والفضل الذين لهم سابقة في الخير والعلم، فإذا زلّوا زلة غير مكررة، لم يكن من الحكمة التشهير بهم، بل يُستر عليهم ويُنصحون، حفاظًا على مقامهم، ودفعًا للفتنة التي قد تنشأ من النيل منهم علنًا. وقد جرى السلف على هذا، كما في تعاملهم مع سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه حين اجتهد في قتل بعض الأسرى في غزوة بني جذيمة، فلم يُسقطوا مكانته في الجهاد، بل نبهه النبي صلى الله عليه وسلم إلى خطئه، وجبر ما وقع من ضرر. وفي عصور لاحقة، تعامل العلماء مع بعض هفوات أقرانهم بالستر والنصيحة، إدراكًا لأثرهم الكبير في الأمة.
3- التخصص العلمي أساس الاتزان
إنّ من أصول الانضباط في الخلاف أن يلتزم كل واحد بمجال اختصاصه، وألا يتكلم فيما لا يحسنه، قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، ونهى عن القول بغير علم: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]. وقال الإمام مالك: "من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب". ولقد جنى على الأمة كثيرًا من تصدروا للفتوى في الطب أو الفلك أو السياسة الشرعية دون معرفة كافية، أو تحدثوا في الفقه بلا تأصيل علمي، مما أوجد فوضى فكرية وأربك العوام. والتاريخ يشهد أنّ التخصص كان أحد أسرار ازدهار الحضارة الإسلامية، فقد كان في بيت الحكمة ببغداد فقهاء يفتون، وأطباء يعالجون، وفلكيون يحسبون، دون أن يتدخل أحدهم في مجال الآخر إلا بعلمٍ راسخ.
4- النصيحة سرًا لا جهرًا
النصيحة من الدين، لكنها تكون أقرب إلى القبول إذا كانت في السر، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن تميم الداري: "الدين النصيحة" قيل: لمن؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" (رواه مسلم). وقال الشافعي: "من وعظ أخاه سرًا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه". وكان السلف يحرصون على هذا الأدب، فكان أبو بكر ينصح عمر فيما يراه من اجتهاداته بعيدًا عن الناس، وكان الإمام أحمد إذا أراد نصح أحد من العلماء أرسل إليه كتابًا أو لقيه بعيدًا عن المجالس العامة. وفي ذلك صيانة لكرامة المنصوح، وإغلاق لأبواب الشماتة، وتقليل لاحتمالات تحول النصيحة إلى خصومة.
5- فقه الاختلاف
الاختلاف بين الناس سنة كونية، قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118]، وقد اختلف الصحابة والأئمة في مسائل فرعية كثيرة، دون أن يطعن بعضهم في دين بعض. وكان الشافعي يقول: "اختلاف العلماء رحمة"، وهو يقصد الاختلاف السائغ الذي يبقى في دائرة الاجتهاد. ومن أمثلته اختلاف الأئمة في صفة الصلاة أو أحكام المعاملات، وهو ما ثرى به الفقه الإسلامي وتعددت مدارسه. فقه الاختلاف يعني احترام المخالف في إطار الشريعة، وعدم تحويل المسائل الاجتهادية إلى معارك تهدد وحدة الأمة.
6- نبذ التعصب للرجال
من أخطر ما يصاحب الخلافات أن يتحول الحق إلى تابع للأشخاص، فيُعرف الحق بالرجال لا الرجال بالحق، وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "اعرف الحق تعرف أهله"، وقال ابن القيم: "الحق لا يعرف بالرجال وإنما يعرف الرجال بالحق". ولهذا كان الأئمة الكبار يرفضون أن يتعصب لهم أتباعهم، فقد قال أبو حنيفة: "هذا رأيي، فمن جاء بأحسن منه أخذناه"، وقال الشافعي: "إذا صح الحديث فهو مذهبي". والتعصب للأشخاص أو الأحزاب أو المذاهب يقطع أوصال الوحدة، ويجعل الولاء والبراء على الانتماء لا على الدليل.
7- الحب في الله أساس الوحدة
الحب في الله هو الرابطة القوية التي تجعل المسلمين يتحابون رغم الخلاف، وهو من أوثق عرى الإيمان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله" (رواه أحمد)، وفي الحديث القدسي: "وجبت محبتي للمتحابين فيَّ" (رواه مالك). وقد كان هذا الحب بين الصحابة سببًا في تجاوزهم لكثير من الخلافات، فبعد أن وقع بينهم اختلاف في بعض القضايا الكبرى، بقوا على المودة والتقدير المتبادل، وجعلوا ما يجمعهم من عقيدة ونصرة للدين أكبر مما يفرقهم.
إن هذه القواعد السبع، إذا التزمها أهل العلم والدعوة والإصلاح، ضمنت أن يكون الخلاف وسيلة للبحث عن الحق، لا سلاحًا للانتصار للنفس أو التشفي من المخالف. وقد رأينا في التاريخ أمثلة مشرقة حين التزم العلماء بها، كما في علاقة الشافعي بأحمد، وأمثلة مؤسفة حين غابت، كما في فترات التعصب المذهبي التي وثقها المؤرخون، ومنها حادثة مرو حين بني جامع الشافعية مشرفًا على جامع الحنفية فأثار ذلك الفتنة. واليوم نحن أحوج ما نكون إلى استعادة هذه الأخلاق النبوية والأثرية، وأن نعتصم بحبل الله جميعًا، كما أمرنا ربنا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، حتى نحفظ وحدة الصف ونوجه طاقات الأمة نحو البناء والنهضة، لا نحو الهدم والفرقة، ونسأل الله أن يجمع قلوبنا على الحق، ويجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

منار الدين الدقر

منار الدين الدقر، باحث وأكاديمي سوري، ومشارك في الثورة السورية منذ انطلاقتها الأولى، أحمل في قلبي قضايا وطني، وفي فكري هموم أمتي، وأسعى أن أجمع بين العمق العلمي، والنضج الفكري، والخبرة الميدانية، بروح ثائرة لا تنكسر، وبعقل ناقد باحث. خلال أكثر من عقد من العمل، مزجت بين التحصيل الشرعي، والتأهيل الأكاديمي المتعدد، والخبرة الإدارية والتربوية، والمسؤولية المجتمعية، في محاولة لبناء مشروع معرفي تربوي يكون امتدادًا لقيم الثورة، وأصالة العلم، وإنسانية الرسالة.

التعليقات والمناقشة

إضافة تعليق

شاركنا رأيك حول هذا البحث

لا توجد تعليقات بعد

كن أول من يعلق على هذا البحث

أبحاث ذات صلة

مزيد من المقالات في نفس التخصص

والعاديات ضبحا
مقال
Dec 08
08 Dec 2025

والعاديات ضبحا

يحتل القسم القرآني موقعًا بالغ الأهمية في الخطاب الإلهي، فهو ليس مجرد افتتاحية بلاغية، وإنّما يحمل د...

قراءة البحث